الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
وقرأ الأعمش {فظنوا أنهم ملاقوها}، وكذلك في مصحف ابن مسعود، وحكى أبو عمرو الداني عن علقمة، أنه قرأ: {ملافوها} بالفاء مشددة من لففت، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة» والمصرف المعدل، والمرغ، ومنه قول أبي كبير الهذلي: [الكامل] وهو مأخوذ من الانصراف من شيء إلى شيء، وقوله تعالى: {ولقد صرفنا} الآية، المعنى: ولقد خوفنا ورجينا وبالغنا في البيان، وهذا كله بتمثيل وتقريب للأذهان، وقوله: {من كل مثل} أي من كل مثال له نفع في الغرض المقصود بهم، وهو الهداية، وقوله: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} خبر مقتضب في ضمنه، فلم ينفع فيهم تصريف الأمثال، بل هم منحرفون يجادلون بالباطل وقوله: {الإنسان} يريد الجنس، وروي أن سبب هذه الآية هو النضر بن الحارث، وقيل ابن الزبعرى. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد نام عن صلاة الليل، فأيقظه، فقال له علي إنما نفسي بيد الله، ونحو هذا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضرب خده بيده ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} فقد استعمل الآية على العموم في جميع الناس، والجدل الخصام والمدافعة بالقول، فالإنسان أكثر جدلاً من كل ما يجادل من ملائكة وجن وغير ذلك إن فرض وفي قوله: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} تعليم تفجع ما على الناس، ويبين فيما بعد.
وقوله: {واتخذوا} إلى آخر الآية توعيد، والآيات تجمع آيات القرآن والعلامات التي ظهرت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {وما أنذروا هزواً} يريد من عذاب الآخرة، والتقدير ما أنذروه فحذف الضمير والهزاء: السخر والاستخفاف، كقولهم أساطير الأولين، وقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا وقوله: {ومن أظلم} استفهام بمعنى التقرير، وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الأمر على ما لا جواب له فيه إلا الذي يريد خصمه، فالمعنى لا أحد {أظلم ممن} هذه صفته، أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير، وينسى ويطرح كبائره التي أسلفها هذه غاية الانهمال، ونسب السيئات إلى اليدين، من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية، فجعلت كذلك في المعاني، استعارة، ثم أخبر الله عز وجل عنهم وعن فعله بهم، جزاء على إعراضهم وتكسبهم القبيح، فإنه تعالى: {جعل على قلوبهم أكنة} وهي جمع كنان، وهو كالغلاف الساتر واختلف الناس في هذا وما أشبهه من الختم والطبع ونحوه، هل هو حقيقة أو مجاز، والحقيقة في هذا غير مستحلية، والتجوز أيضاً فصيح، أي لما كانت هذه المعاني مانعة في الأجسام وحاملة، استعيرت للقلوب التي قد أقساها الله تعالى وأقصاها عن الخير، وأما الوقر في الآذان، فاستعارة بينة لأنا نحس الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعاً تاماً، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر، فلا يسمع، وشبهوا به، وكذلك العمى والصم والبكم، كلها استعارات، وإنما الخلاف في أوصاف القلب، هل هي حقيقة أو مجاز، والوقر: الثقل في السمع، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم، وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبداً، وهذا يخرج على أحد تأويلين: أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص، ممن حتم الله عليه أن لا يؤمن ولا يهتدي أبداً، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال، والآخر أن يريد: وإن تدعهم إلى الهدى جميعاً فلن يؤمنوا جميعاً أبداً، أي إنهم ربما آمن الأفراد، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين، أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير.
ومنه قول الأعشى: [البسيط] ثم عقب تعالى توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما توعد هؤلاء بمثله، وفي قوله: {وتلك القرى} حذف مضاف تقديره {وتلك} أهل {القرى} يدل على ذلك قوله: {أهلكناهم} فرد الضمير على أهل القرى، و{القرى}: المدن، وهذه الإشارة إلى عاد وثمود ومدين وغيرهم. {وتلك} ابتداء، و{القرى} صفته، و{أهلكناهم} خبر، ويصح أن يكون {تلك} منصوباً بفعل يدل عليه {أهلكناهم}. وقرأ الجمهور {لَمُهلكهم} بضم الميم وفتح اللام، من أهلك، ومفعل في مثل هذا يكون لزمن الشيء، ولمكانه، ويكون مصدراً فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {لَمَهلكهم} بفتح الميم واللام وقرأ في رواية حفص {لِمَهلكهم} بفتح الميم وكسر اللام، وهو مصدر من هلك، وهو في مشهور اللغة غير متعد، فالمصدر على هذا مضاف إلى الفاعل، لأنه بمعنى: وجعلنا لأن هلكوا موعداً، وقالت فرقة إن هلك يتعدى، تقول أهلكت الرجل وهلكته بمعنى واحد، وأنشد أبو علي في ذلك: [الرجز] فعلى هذا يكون المصدر في كل وجه مضافاً إلى المفعول، وقوله: {وإذ قال موسى} الآية ابتداء قصة ليست من الكلام الأول، المعنى: اذكر واتل، و{موسى} هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ وبظاهر القرآن، إذ ليس في القرآن موسى غير واحد، وهو ابن عمران ولو كان في هذه الآية غيره لبينه، وقالت فرقة منها نوف البكالي أنه ليس موسى بن عمران، وهو موسى بن مشنى، ويقال ابن منسى، وأما فتاه فعلى قول من قال موسى بن عمران، فهو يوشع بن نون بن إفراييل بن يوسف بن يعقوب، وأما من قال هو موسى بن مشنى فليس الفتى يوشع بن نون، ولكنه قول غير صحيح، رده ابن عباس وغيره والفتي في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتياناً، قيل للخادم فتى، على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي»، فهذا اندب إلى التواضع، والفتى في الآية هو الخادم، ويوشع بن نون يقال هو ابن أخت موسى عليه السلام، وسبب هذه القصة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل، وخطب فأبلغ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك قال لا، فأوحى الله إليه بلى: عبدنا خضر، فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقيه، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ {مجمع البحرين} فإذا فقدت الحوت فإنه هنالك، وأمر أن يتزود حوتاً، ويرتقب زواله عنه، ففعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة {لا أبرح} أسير، أي لا أزال، وإنما قال هذه المقالة وهو سائر، ومن هذا قول الفرزدق: [الطويل] وذكر الطبري عن ابن عباس: قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر، أنزل قومه بمصر، فلما استقرت الحال خطب يوماً، فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل، ثم ذكر نحو ما تقدم، وما مر بي قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام، وما أراه يصح، بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين، وفي هذه القصة من الفقه الرحلة في طلب العلم، والتواضع للعالم، وقرأ الجمهور {مَجمَع} بفتح الميمين، وقرأ الضحاك {مَجمِع} بكسر الميم الثانية، واختلف الناس في {مجمع البحرين} أين هو؟ فقال مجاهد وقتادة هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم.قال القاضي أبو محمد: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى الجنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام، هو {مجمع البحرين} هو عند طنجة وهو حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه السائر من دبور إلى صبا. وروي عن أبي بن كعب أنه قال: {مجمع البحرين} بإفريقية، وهذا يقرب من الذي قبله، وقال بعض أهل العلم هو بحر الأندلس من البحر المحيط، وهذا كله واحد حكاه النقاش وهذا مما يذكر كثيراً، ويذكر أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء، وقالت فرقة {مجمع البحرين} يريد بحراً ملحاً وبحراً عذباً، فعلى هذا إنما كان الخضر عند موقع نهر عظيم في البحر، وقالت فرقة البحران إنما هما كناية عن موسى والخضر، لأنهما بحرا علم، وهذا قول ضعيف والأمر بين من الأحاديث أنه إنما رسم له ماء بحر، وقوله: {أو أمضي حقباً} معناه أو أمضي على وجهي زماناً، واختلف القراء، فقرأ الحسن والأعمش وعاصم {حقباً} بسكون القاف، وقرأ الجمهور {حقباً} بضمه، وهو تثقيل حقب، وجمع الحقب أحقاب، واختلف في الحقب، فقال عبد الله بن عمرو ثمانون سنة، وقال مجاهد سبعون، وقال الفراء الحقب سنة واحدة وقال ابن عباس وقتادة أزمان غير محدودة وقالت فرقة الحقب جمع حقبة، وفي السنة كأنه قال أو أمضي سنين.
|